ترشدنا
التربية الإسلامية إلى حفظ الأسرار وعدم استخدامها كوسيلة ضغط لتنفيذ
الطرف الآخر تصرفات لا يرغب فيها، كما تستثمر المخابرات أسرار الناس في
تحقيق أهدافها، فالنظرة الإسلامية بعيدة عن هذا، خاصة إذا علمنا أن الزواج
في الأصل كاشف للأسرار، ولهذا فإن الإسلام حرم استثمار المعلومات السرية عن
الزوج أو الزوجة لكسب المال أو التشهير، لأن الأسرار العائلية جزء من
الإنسان وذاته.
ما المراد بالأسرار الاجتماعية
الأمور الاجتماعية هي التي تتعلق بالمجتمع سواء من الجانب الأسري أم
الترابطي.. إنها أمور تتعلق بالشعوب والعلاقات الإنسانية، ولا ننسى أن
مجموعة الأسر هي التي تكون المجتمعات المحلية في المجتمع العام.
هذا ما قصدناه بالأمور الاجتماعية، ومنها علاقة الزوجين بأهلهما وجيرانهما
وأصدقائهما، ونقل الأخبار لهما، وخاصة الأخبار الخاصة، فهذه هي الأسرار
الاجتماعية.
ولهذا يجب على الزوجين المحافظة على أسرارهما وأسرار أهلهما، فليس كل ما
يعلم يقال للطرف الآخر، وكم من حالة طلاق عاشتها أسر بسبب إفشار الأسرار
الاجتماعية، وخاصة إذا علمنا أن الزواج ليس مجرد ارتباط بين شخصين، وإنما
بين عائلتين، فيتصل الزوج بإخوان زوجته وأهلها وأقاربها، ويتعرف على
عاداتهم وتقاليدهم، ويسمع أخبارهم ويحضر أفراحهم وأحزانهم، وكذلك الزوجة مع
أهل زوجها، وفي كل ذلك يطلعان على أسرار أهلهما العائلية، فينبغي عليهما
أن يكونا أمينين عليها، لأن كشف السر الاجتماعي يترتب عليه ضرر في العلاقة
الزوجية ومن ثم في العلاقة العائلية.
الزواج السري
إننا نناقش الآن الزواج الثاني أو الآخر لو أقدم عليه الزوج سراً فهل يعتبر
من الأسرار الاجتماعية أم أنه يحق له فعل ذلك دون إخبار زوجته الأولى ولا
يعتبر زواجه من الأسرار الاجتماعية؟
ما نريد أن نؤكد عليه أنه ما إن توافر في هذا الزواج أركانه من وليّ وشاهدي
عدل، وإيجاب وقبول، وصداق، فإنه يصبح زواجاً شرعياً.. على أن السنة هي
إشهار ذلك النكاح، كما أنه لو لم يسجل هذا الزوج العقد في المحكمة الشرعية
فإنه يسمى (الزواج العرفي) والفقهاء مختلفون فيه ما بين مُبيح ومحرّم، يقول
الأستاذ الشيخ راشد عبدالله الفرحان في كتابه (الأحوال والمعاملات
المعاصرة في الفقه الإسلامي):
هو زواج يتم بولي وشاهدي عدل، وإيجاب وقبول، وصداق، إلا أنه لم يسجل في
الدفاتر والأوراق الرسمية، أمام مأذون مُرخص له بذلك، ليتخذ الصيغة
الرسمية، وذلك لأسباب خاصة بالزوجين، كأن يكون لأحد الزوجين دخل مالي يخشى
انقطاعه أو أن يكون فارق السن يمنع تسجيله قانوناً.
ثم يقول بعد ذلك: أما حكمه شرعاً فهو زواج كامل الأركان والشروط ينتج آثاره شرعاً، لكنه غير معترف به قانوناً لعدم تسجيله.
ومن المعلوم أن أيا من الفقهاء لم يشترط الإعلان في الزواج من ثانية..
لكننا نرى أنه يستحسن ذلك.. لأنه من حق الزوجة الأولى أن تطلب الطلاق لوجود
ضرة معها! ولأنه يجب عليه أن يعدل في القسم بينهما، إلا إن تنازلت إحداهم
عن ذلك، كما أنه قد تحدث وفاة أو ولادة.. وهذا يترتب عليه أحكام عدة من
ميراث ونفقة ونحو ذلك..
وقد أجاز الفقهاء نكاح السر وهو الذي يشترط فيه استكتام الشاهدين.
كما أن في الزواج بالثانية سراً إجحافاً بحق الزوجة الأولى.. فقد لا ترضى
بأن يكون لزوجها زوجة ثانية.. وقد يقودها هذا إلى طلب الطلاق.. ولهذا فعدم
إخبارها يعدُ نوعاً من التعدي على حق لها قد قرره الفقهاء.. فيجب أن نعلم
بأن كثيراً من الزيجات التي تتم في السر يُكشف أمرهن ولو بعد حين، وهذا
ينتج عنه مشاكل اجتماعية كثيرة، وأننا نرى أنه أمر غير مقبول اجتماعياً،
فكيف نتصور حال الأبناء عندما يتفاجؤون بأن لهم أشقاء في أعمار متقدمة؟ كيف
لنا أن نتصور وقع المفاجأة حينما يعلم الأقارب والأصحاب بوجود زوجة أخرى
في السر؟
أعمال طاعات في السر يكشفها أحد الزوجين
إن ما سار عليه السلف الصالح أن تكون الطاعات في السر، وأصل هذا الأمر حديث
النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه حين سأله عن أفضل الصدقة؟
فقال صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصدقة سر إلى فقير وجهد من مقل".
وهناك الكثير من النصوص في الحثّ على إخفاء الطاعات، يقول صلى الله عليه
وسلم: "سبعة يظلهم الله بظله يوم لا ظله إلا ظله". وذكر منهم " رجل تصدق
بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه".
ومن هنا جاء ترفع الصالحين والأتقياء عن ذكر أعمال الطاعات.. حتى وصل الأمر
إلى الدعاء نفسه، ويقول الإمام السيوطي في كتابه (فض الوعاء): وقال بعض
السلف: دعوة سراً أفضل من سبعين دعوة جهراً وعلانية! وقال الحسن البصري:
"كان الناس يجتهدون في الدعاء ولا يُسمع لهم صوت، إن كان إلا همساً بينهم
وبين ربهم".
وهذا ما قد يحدث لأحد الزوجين.. أن يقوم بأعمال طاعات سراً مثل صلاة أو صدقة أو ذكر أو مساعدة ضعفاء أو سعي في مصالح الناس.
يذكر الذهبي في كتابه (سير أعلام النبلاء) بعض هذه النماذج المشرفة:
· عن محمد بن إسحاق:
كان ناس من أهل المدينة يعيشون لا يدرون من أين كان معاشهم، فلما مات علي
بن الحسين بن علي بن أبي طالب فقدوا ذلك الذي كانوا يؤتون بالليل.. وقال
شيبة بن نعامة: لما مات علي وجدوه يعول مائة أهل بيت قلت: (القائل الذهبي)
لهذا كان يبخل، فإنه ينفق سرا ويظن أهله أنه يجمع الدراهم!
· وأغرب ما جاء في كتب الفقه ما جاء في (البحر الرائق) لزين بن
ابراهيم بن بكر الحنفي: الأفضل أن يفطر للضيافة ولا يقول: أنا صائم، لئلا
يقف على سره أحد!.
ومن هذا كله فأحد الزوجين قد يختار لنفسه أعمالاً في السر من الطاعات..
وعلى الطرف الآخر أن يحترم هذه الرغبة وألا يبدي تلك الأفعال.. حتى تبقى في
السر ويبقى ثوابها مضاعفاً لصاحبها.